فصل: قال السمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)}.
قوله: {أَإِذَا مَا مِتُّ}: {إذا} منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله تعالى: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} تقديرُه: إذا مِتُّ أُبْعَثُ أو أُحيا. ولا يجوز أن يكونَ العاملُ فيه {أُخْرِج} لأنَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها. قال أبو البقاء: (لأنَّ ما بعد اللامِ وسوف لا يَعْمل فيما قبلها كإنَّ) قلت: قد جَعَلَ المانعَ مجموعَ الحرفين: أمَّا اللامُ فمُسَلَّمٌ، وأمَّا حرفُ التنفيسِ فلا مَدْخَلَ له في المنع؛ لأنَّ حرفَ التنفيسِ يَعْمَلُ ما بعده فيما قبله. تقول: زيدًا سأضرب، وسوف أضرب، ولكنْ فيه خلافٌ ضعيفٌ، والصحيحُ الجوازُ، وأنشدوا عليه:
فلمَّا رَأَتْع أمُّنا هانَ وَجْدُها ** وقالت: أبونا هكذا سوف يَفْعَلُ

ف (هكذا) منصوب ب (يَفْعَل) بعد حرف التنفيس.
وقال ابن عطية: واللامُ في قوله: {لَسَوْف} مجلوبةٌ على الحكاية لكلامٍ تقدَّم بهذا المعنى، كأنَّ قائلًا قال للكافر: إذا مِتَّ يا فلان لسوف تُخْرَجُ حَيًَّا، فقرَّر الكلامَ على الكلام على جهةِ الاستبعادِ، وكرَّر اللامَ حكايةً للقول الأول.
قال الشيخ: ولا يُحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكايةُ لقولٍ تقدَّمَ، بل هو من كلامِ الكافرِ، وهو استفعامٌ فيه معنى الجحدِ والاستبعادِ.
وقال الزمخشري: لامُ الابتداءِ الداخلةُ على المضارع تعطي معنى الحالِ فكيف جامَعَتْ حرفَ الاستقبال؟ قلت: لم تجامِعْها إلا مُخْلِّصَةً للتوكيد كما أَخْلَصَت الهمزةُ في (يا الله) للتعويض، واضمحلَّ عنها معنى التعريف. قال الشيخ: وما ذَكَرَ مِنْ أنَّ اللامَ تعطي الحالَ مخالَفٌ فيه، فعلى مذهبِ مَنْ لا يرى ذلك يُسْقط السؤال. وأمَّا قوله: (كما أَخْلَصَت الهمزة) فليس ذلك إلا على مذهبِ مَنْ يزعم أنَّ أصلَه إلاه، وأمَّا مِنْ يزعم أنَّ أصله: لاه، فلا تكون الهمزةُ فيه للتعويضِ؛ إذ لم يُحْذَفْ منه شيءٌ، ولو قلنا: إن أصلَه إلاه، وحُذِفَتْ فاءُ الكلمة، لم يتعيَّنْ أنَّ الهمزةَ فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانَتْ عوضًا من المحذوف لَثَبَتَتْ دائمًا في النداء وغيرِه، ولَمَات جاز حذفُها في النداء، قالوا: (يا الله) بحَذْفِها، وقد نَصُّوا على أن قطعَ همزةِ الوصل في النداء شاذ.
وقرأ الجمهور: {أإذا} بالاستفهامِ وهو استبعادٌ كما تقدَّم. وقرأ ابن ذكوان بخلافٍ عنه وجماعةٌ {إذا} بهمزةٍ واحدة على الخبر، أو للاستفهامِ وحذَف أداتَه للعلمِ بها، ولدلالةِ القراءةِ الأخرى عليها. وقرأ طلحة بن مصرف {لَسَأَخْرَجُ} بالسين دون سوف، هذا نَقْلُ الزمخشريِّ عنه، وغيرُه نَقَل عنه {سَأَخْرُج} دونَ لامِ ابتداء، وعلى هذه القراءةِ يكونُ العاملُ في الظرف نفسَ {أُخْرَج}، ولا يمنع حرفُ التنفيسِ على الصحيح. وقرأ العامَّةُ {أُخْرَجُ} مبنيًا للمفعول. والحسن وأبو حيوة: {أَخْرِجُ} مبنيًا للفاعل. و{حَيًَّا} حالٌ مؤكِّدة لأنَّ مِنْ لازمِ خروجِه أن يكونَ {حَيًَّا} وهو كقولِه: {أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33]. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وجماعة {يَذْكُرُ} مخففًا مضارعَ (ذكر)، والباقون بالتشديد مضارعَ تَذَكَّر، والأصل (يتذكَّر) فأُدْغِمَتْ التاءُ في الذال. وقد قرأ بهذا الأصلِ وهو يَتَذَكَّر: أُبَيُّ.
{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)}.
والهمزةُ في قوله: {أَوَلاَ يَذْكُرُ} مؤخرةٌ عن حرف العطف تقديرًا كما هو قول الجمهور. وقد رَجَع الزمخشري إلى رأي الجمهورِ هنا فقال: الواوُ عَطَفَتْ {لاَ يَذْكُرُ} على {يقول} ووُسِّطَتْ همزةُ الإِنكار بين المعطوف وحرفِ العطف. ومذهبُه أَنْ يُقَدِّرَ بين حرفِ العطفِ وهمزة الاستفهام جملةً يُعْطَف عليها ما بعدها، وقد فعل هذا- أعني الرجوعَ إلى قولِ الجمهور- في سورة الأعراف كما نبَّهت عليه في موضعِه.
قوله: {مِن قَبْلُ}، أي: مِنْ قبلِ بَعْثه. وقَدَّره الزمخشري (من قبلِ الحالةِ التي هو فيها وهي حالةُ بقائه).
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)}.
قوله: {جِثِيًّا}: حالٌ مقدرةٌ مِنْ مفعولِ {لَنُحْضِرَنَّهُمْ} و{جِثِيًّا} جمعُ جاثٍ جمعٌ على فُعُوْل نحو: قاعِد وقُعود وجالِس وجُلوس. وفي لامِه لغتان، إحداهما الواو، والأخرى الياء يُقال: جثا يَجْثُو جُثُوًَّا، وجَثِيَ يَجْثِي جِثايةً، فعلى التقدير الأول يكون أصلَه (جُثُوْوٌ) بواوين: الأُوْلى زائدةٌ علامةً للجمع، والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُعِلَّتْ إعلالَ عِصِيّ ودُلِيّ، وتقدَّم تحقيقُه في {عِتِيًَّا}. وعلى الثاني يكون الأصلُ جُثُوْيًا، فَأُعِلَّ إعلالَ هَيِّن ومَيِّت. وعن ابن عباس: أنه بمعنى جماعاتٍ جماعاتٍ جمعَ جُثْوَة، وهو: المجموعُ من التراب والحجارة. وفي صحتِه عنه نظرٌ من حيث إنَّ فُِعْلَة لا يُجمع على فُعُوْل. ويجوز في {جِثِيَّا} أن يكون مصدرًا على فُعول، وأصلُه كما تقدَّم في حالِ كونِه جمعًا: إمَّا جُثُوٌّ، وإمَّا جُثُوْيٌ. وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسران فاءَه، والباقون يَضُمونها. والجُثُوُّ: القُعُودُ على الرُّكَب.
{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)}.
قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}: في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه: أن {أيُّهم} موصولةٌ بمعنى الذي، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه، لخروجِها عن النظائر، و{أَشَدُّ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل {أيُّهم}، و{أيُّهم} وصلتُها في محل نصب مفعولًا بها بقوله: {لَنَنْزِعَنَّ}. ول أي أحوالٌ أربعةٌ، أحدُها: تُبْنى فيها وهي- كما في الآيةِ- أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها، ومثلُه قولُ الشاعر:
إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ ** فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ

بضم (أيُّهم) وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ (أيُّهم) هنا مبتدأٌ، و(أشدُّ) خبرُه، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير: لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم: أيُّهم أشدُّ. وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر:
ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ ** فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ

وقال تقديره: فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ: لا حَرِجٌ ولا محرومُ.
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل {نَنْزِعَنَّ} فهي في محلِّ نصب، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب، كما يَخُصُّه بها الجمهور.
وقال الزمخشري: ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعًا على {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 50]، أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلًا قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا. فجعل {أيُّهم} موصولةً أيضًا، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ. قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين.
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ {كُلِّ شِيعَةٍ} و{مِنْ} مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ مِنْ ، و أي استفهامٍ، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ مِنْ لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى {لننزِعَنَّ} لننادِيَنَّ، فعوملَ معامَلَته، فلم يعمل في أي . قال المهدوي: ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ، فيعملُ في المعنى، ولا يعملُ في اللفظِ.
وقال المبرد: {أيُّهم} متعلِّقٌ ب {شيعةٍ} فلذلك ارتفع، والمعنى: من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا. ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولًا ل {نَنْزِعَنَّ} محذوفًا. وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم. قال النحاس: وهذا قولٌ حسنٌ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا. قلت: وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكنْ جَعَلَ {أيُّهم} فاعلًا لِما تَضَمَّنَتَهْ {شيعة} من معنى الفعلِ، قال: (التقدير: لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم، وهي على هذا بمعنى الذي).
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ {أيُّهم} في الآية بمعنى الشرط. والتقدير: إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم، أو لم يَشْتَدَّ، كما تقول: ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ، المعنى: إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا.
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش: {أيُّهم} نصبًا. قلت: فعلى هذه القراءة والتي قبلَها: ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها. قال النحاس: (ما علمتُ أحدًا من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه) قال: وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين، هذا أحدُهما (قال) وقد أعرب سيبويه (أيًَّا) وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ، فكيف يبنيها مضافةً؟ وقال الجرميُّ: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحدًا يقول: (لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ) بالضمِّ بل يَنْصِبُ. و{عَلَى الرحمن} متعلقٌ ب {أشدُّ}، و{عِتِيًَّا} منصوبٌ على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ، إذ التقديرُ: أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ، ولابد مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ، التقدير: فَنُلْقِيهِ في العذابِ، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري: فإن قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه. قلت: هما للبيان لا للصلةِ، أو يتعلَّقان ب (أَفْعَل)، أي: عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم: (هو أَشَدُّ على خَصْمه، وهو أَوْلَى بكذا).
قلت: يعني ب {على} قوله: {على الرحمن}، وبالباء قوله: {بالذين هم}. وقوله (بالمصدر) يعني بهما {عِتيَّا} و{صِلِيًَّا} وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه. وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ {عِتِيًَّا} و{صِلِيًَّا} في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ.
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)}.
قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ}: في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ» قال الشيخ: وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب إنْ والجوابُ هنا على زَعْمه ب إنْ النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا. وقوله: (والواو تَقْتَضِيه) يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: (نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ)، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر:
واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ

أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه.
و{إنْ} حرفُ نفيٍ، و{منكم} صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: وإنْ أحدٌ منكم. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها. وقد تقدَّم لذلك نظائرُ.
والخطابُ في قوله: {منكمْ} يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه. قال الزمخشري: التفاتٌ إلى الإِنسان، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ {وإنْ منهم} أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور. والحَتْمُ: القضاءُ والوجوبُ. حَتَمَ، أي: أوجب وحَتَمَه حتمًا، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى: {هذا خَلْقُ الله} و(هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ). و{على ربِّك} متعلِّقٌ ب (حَتْم) لأنه في معنى اسمِ المفعول، ولذلك وصَفَه ب {مَقْضِيًَّا}.
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}.
وقرأ العامَّةُ {ثُمَّ نُنَجِّيْ} بضمِّ {ثمَّ} على أنَّها العاطفةُ وقرأ عليٌّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباسٍ وأُبيُّ والجحدريُّ ويعقوبُ {ثَمَّ} بفتحها على أنها الظرفيةُ، ويكون منصوبًا بما بعده، أي: هناك نُنَجِّي الذين اتَّقَوا.
وقرأ الجمهور: {نُنَجِّيْ} بضم النونِ الأولى وفتحِ الثانية وتشديدِ الجيم، مِنْ (نجَّى) مضعفًا. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن {نُنْجِي} مِنْ أَنْجى. والفعلُ على هاتين مضارعٌ. وقرأَتْ فِرقةٌ {نُجِّيْ} بنونٍ واحدةٍ مضمومةٍ وجيمٍ مشددة. وهو على هذه القراءةِ ماضٍ مبني للمفعول، وكان مِنْ حق قارئها أن يفتحَ الياءَ، ولكنه سكَّنه تخفيفًا. وتحتمل هذه القراءةُ توجيهًا آخرَ سيأتي في قراءة متواترةٍ آخرَ سورةِ الأنبياء. وقرأ عليُّ بن أبي طالب أيضًا {نُنَجِّي} بحاءٍ مهملة، من التَّنْحِيَة. ومفعول {اتَّقوا} إمَّا محذوفٌ مرادٌ للعلمِ به، أي: اتَّقُوا الشركَ والظلمَ. قوله: {جِثِيَّا} إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كان {نَذَرُ} يتعدَّى لاثنين بمعنى نترك ونُصَيِّر، وإمَّا حالٌ إنْ جَعَلْتَ {نَذَرُ} بمعنى نُخَلِّيْهم. و {جِثِيًَّا} على ما تقدَّم. و{فيها} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب {نَذَرُ}، وأَنْ يتعلَّقَ ب {جِثِيًَّا} إنْ كان حالًا، ولا يجوزُ ذلك فيه إنْ كان مصدرًا. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ {جِثِيًَّا} لأنه في الأصلِ صفةٌ لنكرةٍ قُدِّم عليها فَنُصِبَ حالًا. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في موت:
الموت أَنواع، كما أَنَّ الحياة أَنواع فمن الموت ما هو بإِزاءِ القوّة النَّامية الموجودة في الإِنسان والحيوان والنبات، نحو قوله تعالى: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا}، لم يقل: مَيْتَة لأَنَّ المَيْتَ يستوى فيه المذكَّر والمؤَنث. وموتٌ هو زوال القوّة الحسّاسة، قال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}. وموت هو زوال القوّة العاقلة، وهى الجهالة، قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، وإِيّاه قَصَد بقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى}. ومنها النوم؛ كما يقال: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل، وعلى هذا النحو سمّاه الله توفِّيا، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، وقد مات يموت ويَمَات أَيضًا. وأَكثر من يتكلَّم بها طيِّىءٌ. وقد تكلَّم بها سائر العرب، قال:
بُنَيَّتى يا خَيْرة البنات ** عيشى ولا تأْمَنُ أَن تماتى

وقال يونس: يميت لغة ثالثة فيها، فهو ميّت ومَيْتَ، وقوم مَوْتَى وأَموات وميّتون. وأَصل ميّت مَيْوِت على فيعِل، ثم أدغم، ثم يخفَّف فيقال: مَيْت. قال عَدِىُّ بن الرَّعْلاَءُ:
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ ** إِنَّمَا المَيْت مَيِّت الأَحياءِ

إِنما المَيْتُ مَن يَعيش ذليلًا ** كاسفًا بالُه قليل الرَّجَاءِ

قال الفراءُ: يقال لمن لم يمت: إِنه مائت عن قليل وميّت، ولا يقال لمن مات: هذا مائت. والموت: السّكون، ماتت الرّيح أَى سكنت. ومات الرّجل وهَوّم أَى نام. ومات الثوبُ أَى بَلى. والمَوْتة: الواحدة من الموت. ومَوْت مائت كلَيلٍ لائلِ، والمُواتِ- بالضم-: الموت. والمَوَات- بالفتح-: ما لا روح فيه. والمَوَات أَيضًا: الأَرض لا مالك لها من بنى آدم، ولا يَنتفِع بها أَحد. والمَوَتان: خلاف الحيوان. وفي المثل: اشتر المَوَتَان، ولا تشتر الحَيَوَان. أَى اشتر الأَرضين والدُّور ولا تشتر الرّقيق والدّواب. والمَوَتَان من الأَرض: التي لم تُحْىَ بعد. وفي الحديث: «مَوَتان الأَرض لله ولرسوله، فمن أَحيا منها شيئًا فهو له».
وقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} قيل: نفى الموت عنهم والمراد نفيُه عن أَرواحهم، تنبيها على ما هم فيه من النعيم. وقيل: نفى عنهم الحزن المذكور في قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ}. وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} المراد زوال القوّة الحيوانيّة، ومفارقة الروّح البدَن. وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} قيل معناه: ستموت تنبيها على أَنه لابدّ لكلّ أَحد من الموت، وقيل: بل إِشارة إِلى ما يعترى الإِنسان دائمًا من التحَلّل والنقص؛ فإِن البشر ما دام في الدّنيا يموت جزءا فجزءا. والمَيْتة من الحيوان: ما مات بغير تذكية. والمستميت: المتعرّض للموت الذي لا يُبالى في الحرب من الموت. والمستميت للأَمر: المسترسل. والمُوتة- بالضمّ- شِبْه الجنون والصَّرْع، كأَنه من موت العلم والعقل. ومنه رجل مَوْتان القلب وامرأَة مَوْتانة. وأَماته الله ومَوّته للمبالغة. وأَمات فلان: إِذا مات له ابن أَو بنون، وكذلك الناقة والمرأَة، فهى مُمِيت ومميتة، وجمعها: مَمَاويت. وأَمات الشىء طبخًا: بالغ في نضجه، وموّتت الإِبلُ: ماتت، فهو لازم ومتعدّ. قال مجنون عامر:
فعُروةُ مات موتًا مستريحًا ** فها أَنا ذا أُموَّتُ كُلَّ يوم

والمتماوت من صفة الناسك. اهـ.